رجل العصابة والجنرال ورئيسة وزراء بنغلاديش

مقال طويل

رجل العصابة والجنرال ورئيسة وزراء بنغلاديش

كيف حظي حارس أحمد، أحد رجالات العصابات الأسوأ سمعة في بنغلاديش، بحماية جيش بلاده وولاء زعيمته؟

2 فبراير 2021 | 26 دقيقة قراءة


"بإمكاني أن أدبر قتلك، ولكن إذا قتلتك فلن تشعر بألم. سوف أجعلك تعاني."

ابتسم محمد حسن متجهماً وسحب نفساً طويلاً من سيجارته. كانت يداه المثقلتان بخواتم الذهب تخشخشان وهو يصف كيف صفى حساباً مع خصم له. ارتفعت سحابة من الدخان باتجاه الغرفة الضيقة داخل كشك تبديل العملة في أحد شوارع بودابيست الخلفية الهادئة. لم يبد أي مشاعر أو شفقة. فالأمر لا يعدو كونه عملاً اعتيادياً، وأما المشهد فهو أشبه بلقطة من فيلم سينمائي عن المافيا.

يشرح كيف استخدم وحدة نخبوية سيئة الصيت متخصصة في محاربة الإرهاب على بعد آلاف الأميال لتعقب الهاتف النقال لضحيته ثم إلقاء القبض عليه. حكاية الانتقام والعقاب المثيرة التي يرويها تربطه بواحدة من أكثر المجموعات شبه العسكرية مهابة: كتيبة الفعل السريع، التي ذاع صيتها في ممارسة أعمال القتل والخطف والتعذيب في مختلف أنحاء بنغلاديش. كما تربطه بالنخبة السياسية على أعلى المستويات في البلد وبواحد من أكثر الرجل قوة ونفوذاً في البلاد.

من هو محمد حسن؟

محمد حسن عبارة عن شخصين، أحدهما يحمل اسم عائلة مهمة جداً.

هويته الأولى هي لرجل أعمال وضيع من بنغلاديش سافر آلاف الأميال لينشئ لنفسه حياة جديدة في أوروبا. محل الصرافة الذي يسمى خليج البنغال واحد من عدة مشاريع تجارية يديرها حسن في بودابيست منذ وصوله إليها في مايو / أيار من عام 2015. عمله في صرافة العملة غير قانوني، فهو لا يحمل رخصة لمزاولة المهنة، ولكن هذا لا يعني شيئاً بالنسبة لحسن.

يملك في الجوار، في ذلك الشارع الضيق، مشروعاً تجارياً آخر – مطعماً صغيراً للمأكولات المجرية التقليدية تحت اسم غولاش إيتريم، أي مطعم الغولاش. إنه قلب الحي القديم الذي يتدفق عليه السواح في العادة، إلا أن المطعم يعمل بخسارة مثله مثل المشاريع التجارية الأخرى التي يملكها حسن، الذي يشغل دار ضيافة للطلبة ومطعماً آخر في الحي القديم ومحل ملابس نسائية. لدى حسن مشاكل مالية، ولكنها ليست من النوع الذي قد يخطر ببالك. تنهال عليه الأموال بكميات كبيرة ولكن المشكلة التي تواجهه هي كيف يخفي هذه الثروة.

إلا أن هذا الشخص الذي يُدعى محمد حسن، الممتلئ قليلاً والذي تحلو له الملابس الثمينة، شخصية مصطنعة من وحي الخيال. إن الهوية زائفة، وهي مستمدة من عشرات الوثائق المزورة بعناية والتي ساعدت أكثر رجل عصابات مطلوب في بنغلاديش بالاختفاء تماماً. بإمكان وحدة تحقيقات الجزيرة أن تكشف الآن الهوية الحقيقية لمحمد حسن، الرجل الذي يتفاخر بولاء زعيمة دولة وحماية جيشها.

اسمه الحقيقي حارس أحمد وهو ثالث أكبر الأشقاء في عائلة كبيرة من دكا، عاصمة بنغلاديش. ولد في عام 1966 وترك المدرسة مبكراً، وسرعان ما اكتشف كشاب أن مهاراته في ممارسة العنف الابتزاز مطلوبة من قبل عصابة إجرامية في مدينته. وكون مع أشقائه جوزيف وأنيس وتيبو، عشيرة أحمد، سمعة مهابة كسلطة للإيجار في الشوارع الخلفية، يمارسون العنف كلما كان ذلك ضرورياً.

صعود الأشقاء من عشيرة أحمد

في أواخر ثمانينيات القرن العشرين أحكمت عشيرة أحمد قبضتها على منطقة محمدبور المزدحمة في دكا، مما جلب لهم الثروة والشهرة. كانت منطقة تعج بالناس وبالحركة، تكتظ فيها المحال التجارية وأكشاك الأطعمة حيث كان الأشقاء الأربعة يبتزون أصحاب المحلات فيدفعون لهم مقابل الحماية.

كانت بنغلاديش في الثمانينيات مكاناً جيداً للأشقاء من عشيرة أحمد ليمارسوا حرفتهم، إذ انتشر في البلد العنف وفارقه الاستقرار، فلم يتعافى بعد من الحرب الأهلية والانقلاب العسكري الذي شهد مقتل الرئيس المؤسس للبلاد الشيخ مجيب الرحمن وعائلته على يد ضباط من الجيش.

قبل عام 1971 لم تكن بنغلاديش موجودة، وكانت المنطقة تعرف باسم باكستان الشرقية وتحكم من إسلام اباد. قاد الشيخ مجيب، الذي يعرف بلقب "الأب المؤسس للبلاد" قاد الشيخ مجيب انتفاضة ضد باكستان. كانت تلك حرباً بشعة ذبح فيها الجيش الباكستاني ما لا يقل عن 300 ألف من المدنيين. إلا أن الباكستان تعرضت لهزيمة ساحقة بفضل المساعدة العسكرية التي قدمتها الجارة الهند، والتي مازال لها حتى هذا اليوم نفوذ كبير في بنغلاديش.

كان البلد الناشئ موبوءاً بالعنف السياسي، الأمر الذي ما لبث أن أفرز شراكات بين السياسيين والعصابات في الشوارع. كانت هذه العصابات، مقابل الرعاية التي تحظى بها من السياسيين، توفر العضلات التي تساعدهم على البقاء.

أثبتت شبكة عشيرة أحمد الإجرامية في دكا أهميتها للحفاظ على وجود زعماء رابطة عوامي، الحزب السياسي الذي كان يقوده الشيخ مجيب قبل مقتله وبات الآن يقاد من قبل ابنته الشيخة حسينة، التي عادت إلى بنغلاديش من المنفي في الهند عام 1981.

كان تلك حقبة صعبة واجهت فيها السياسية الشابة، الابنة الكبرى للشيخ مجيب، تحديات كبيرة. وكانت هي وشقيقتها الشيخة ريحانة قد أفلتتا من المصير الذي لقيته عائلتهما لأنهما كانتا خارج البلاد في ذلك الوقت. وفي عام 1982، بعد انقلاب آخر، استولت الحكومة العسكرية بزعامة الجنرال حسين محمد إرشاد على السلطة. فواجهت الشيخة حسينة تهديداً بالإقامة الجبرية في منزلها، بل وبالاعتقال والاعتداء الشخصي.

وفي خضم العنف وانعدام اليقين، غدا الأشقاء من عشيرة أحمد فريقاً أمنياً غير رسمي يوفرون الحماية للشيخة حسينة. كانوا يحرسونها في المهرجانات ويوفرون البيوت الآمنة ليجتمع فيها السياسيون من حزب رابطة عوامي دون الخوف من التعرض للاعتقال أو الهجوم.

كان الناس يخشون الأشقاء ويحسبون لهم كل حساب. ولكنهم كانوا أيضاً عرضة للانتقام. كان تيبو أصغرهم سناً، وبحسب ما رواه صديق للعائلة، كان أكثر الأشقاء ذكاء. وبعد أن أسس لنفسه سمعة باعتباره زعيماً يدير بيده مقاليد الأمور في محمدبور، قتل على يد عصابة إجرامية في عام 1999.

قبل عقدين من ذلك، وبينما كان الأشقاء الأربعة يتسلقون السلم في مراتب عالم الجريمة في دكا، اختار شقيق خامس لهم هو عزيز أحمد مساراً آخر، فانضم إلى جيش بنغلاديش. كان زملاؤه داخل الأكاديمية العسكرية في بنغلاديش يعتبرونه دون المستوى، ضابطاً لا يثير الإعجاب، ومع ذلك سرعان ما ارتقى عزيز، وكان رقيه موازياً لتنامي النفوذ السياسي للشيخة حسينة.

وفي دورة العنف والاعتداءات وجرائم القتل داخل دكا، وقعت حادثة قتل بشعة غيرت مصير عشيرة أحمد إلى الأبد. ففي عام 1996، أردي مصطفىازور راحمان مصطفى صريعاً في شارع خلفي ترابي برصاص الأشقاء الثلاثة من عشيرة أحمد: أنيس وحارس وجوزيف. وعلى الرغم من أن بده كان مثقباً بطلقات الرصاص إلا أن رحمان بقي على قيد الحياة ما يكفي ليكون الشاهد الأساسي في المحكمة في جريمة قتله. كانت شهادته أمام المحكمة في 2004، والتي أخذت منه وهو على سرير الموت، هي التي حسمت مصير عصابة أحمد.

تتباين التقارير حول من يكون رحمان هذا. تقول إحدى الروايات إنه كان عضواً في حزب الحرية الذي أسسه ضباط كانوا متهمين باغتيال والد الشيخة حسينة، وأنه كان جزءاً من عصابة هاجمت منزلها بالقنابل في عام 1989. وفي تحول مثير وغريب، بعد ما يقرب من مرور عام على قتل رحمان، وجهت له تهمة بعد وفاته بالمشاركة في شن هجوم على منزلها، وهو نفس المكان الذي قتل داخله والدها، وتحول فيما بعد إلى مقام تذكاري وطني. ولكن يزعم آخرون، وبمن فيهم زوجته، أن قتله كان جزءاً من صراع بين العصابات الإجرامية. وكان قد تعرض لإطلاق نار في وضح النهار وأمام جمهور من الناس. ولذا كان عدد الشهود كبيراً. ولكن بينما ماتزال الشبهات تحوم حول الدافع الحقيقي، لم يكن ثمة ما يشير بإصبع إلى مرتكبي الجريمة.

وفي عام 2004، حكم على جوزيف أحمد بالإعدام لدوره في جريمة القتل. أما شقيقاه أنيس وحارس فصدر بحق كل منهما حكم بالسجن المؤبد ولكنهما تمكنا من الفرار إلى خارج البلاد. ويعتقد أن أنيس أحمد توجه إلى ماليزيا بينما ذهب حارس إلى الهند للتخفي هناك، ربما في حماية من المخابرات العسكرية الهندية.

عروة وثقى

إن الهرب من العدالة شيء ولكن أن يتمكن المرء من البقاء خارج طائلة القانون شيء آخر، إذ يتطلب ذلك مالاً ومعارف وشبكة من العلاقات المتنفذة. وفي هذا الصدد كانت عصابة أحمد تتمتع بإمكانيات كبيرة، وذلك بفضل الصعود السريع لشقيقهم عزيز أحمد الذي حصل في عام 2012 على ترقية ليصبح رئيس حرس الحدود في بنغلاديش، وهو القوة العسكرية النظامية الأقدم في البلاد. وكان حرس الحدود تحت قيادته قد شن حملة لقمع الأحزاب السياسية، كما لعب عزيز دوراً مهماً في ضمان نجاح الشيخة عزيزة في الانتخابات أثناء العنف الذي اجتاح الشوارع في الانتخابات العامة لسنة 2014.

"أين كنتم جميعاً عندما ألقيت القنابل على منزلي؟"

رئيسة الوزراء الشيخة حسينة

وبحلول شهر يونيو / حزيران من عام 2018، حصل عزيز على ترقية ليصبح رئيس هيئة أركان الجيش وذلك في احتفال ترأسته شخصياً رئيسة الوزراء الشيخة حسينة بوصفها وزيرة للدفاع. وكون رئيسة الوزراء أيضاً رئيسة للقوات المسلحة يؤشر على الدور المركزي الذي يلعبه العسكر في سياسة بنغلاديش. أثبتت عشيرة أحمد ولاءها للشيخة حسينة وهي بدورها عينت شقيقهم قائداً لجيشها.

وفي وقت متأخر من ذلك العام، حرس جنود الجنرال عزيز مراكز الاقتراع بينما مضت رابطة عوامي لتحقق نصراً كاسحاً في الانتخابات. وفي نفس تلك السنة، أخلي سبيل شقيق عزيز، يوسف، وخرج من السجن، بعد أن كان حكم الإعدام بحقه قد خفف قبل ذلك بفترة قصيرة إلى السجن المؤبد. وكان ذلك بفضل عفو رئاسي غير معتاد على الإطلاق.

يبدو أن العروة  الوثقى التي توثقت في مجال الأمن والخدمات بين عشيرة أحمد والسياسية التي لا تعرف الرحمة الشيخة حسينة قد أكملت دورتها.

صناعة محمد حسن

حصلت وحدة تحقيقات الجزيرة على تسجيل صوتي سري لمكالمات هاتفية للجنرال عزيز تكشف مدى قوة تلك العروة. ففي إحدى المكالمات يذكر كيف أشادت رئيسة الوزراء الشيخة حسينة بأشقائه أمام كبار المسؤولين في الحزب قائلة: "انظروا، أنتم لا تعرفون أفضل مني من هم أشقاؤه. أين كنتم جميعاً عندما ألقيت القنابل على منزلي؟ كانت هذه الأشياء تحدث لبيتي. أين كنتم أنتم؟ أشقاء هذا القائد كانوا كلهم من حولي."

طبقاً لعزيز، وصفت الشيخة حسينة أشقاءه بأنهم سندها.

وفي تسجيل سري آخر لمكالمة مع زميل عسكري سابق، أكد الجنرال عزيز على ولاء عشيرة أحمد لرئيسة الوزراء قائلاً: "اسمع يا صديقي، حتى بعد كل هذه الأشياء، هؤلاء الأشقاء لم ينتقلوا إلى الجانب الآخر، فهذا ليس في دمنا، نحن لسنا مجبولين على الخيانة."

في التاسع من ديسمبر / كانون الأول من عام 2014، خطا الجنرال عزيز إلى داخل الردهة الرخامية الأنيقة لفندق كمبنسكي في بودابيست. كان الجنرال موفداً رسمياً إلى مؤتمر شرطة الحدود الدولية، حيث يجتمع قادة شرطة الحدود لمناقشة قضايا الأمن والهجرة. لم يكن ثمة مكان أفضل من هذا لرسم خطة لتهريب مطلوب للعدالة عبر الحدود الدولية باستخدام جواز سفر مزور، فيما كان يمكن أن يشكل نموذجاً جيداً للدراسة من قبل زملائه المشاركين في المؤتمر.

طلب مسؤولو سفارة بنغلاديش من شاب بنغالي أن يساعد الجنرال عزيز أثناء وجوده في المجر. كان سامي، الذي غيرنا اسمه من أجل الحفاظ على سلامته، رجل أعمال في الثلاثين من عمره يشق طريقه في المجر. شعر بأنه يتشرف بمساعدة شخصية مهمة جداً من وطنه.

بينما كان الرجلان يستمتعان برحلة نهرية فوق مياه الدانوب الثلجية، وملامح مدينة بودابست التاريخية تظهر من خلفهم وهم جلوس على مائدة العشاء، طرح الجنرال عزيز على سامي سؤالاً: هل لديه الاستعداد لمساعدة شقيق الجنرال، رجل اسمه محمد حسن، في إقامة مشروع تجاري في بودابست وفي الحصول على تصريح إقامة؟ بدا ذلك طلباً بسيطاً جداً.

حارس وعزيز في بودابست، المجر [الجزيرة]

إلا أن طلب المساعدة في ليلة قارصة البرودة من شهر ديسمبر / كانون الأول لم تلبث أن كشفت النقاب عن مؤامرة إجرامية تصل إلى أعلى مستويات السلطة في بنغلادش، وتمخض عنها تنكب شاب من المخاطر ما بات معه يخشى على حياته. وافق سامي على المساعدة، ولكن لم يطل به المقام حتى اكتشف السر الخطير المحيط بحكاية محمد حسن وأنه في الحقيقة يدعى حارس أحمد، رجل العصابات المطارد، والذي يحظى بقدر من النفوذ والمال لم يكن ليخطر ببال سامي.

وفي الشهور التي تلت، تلقى سامي وثائق وأوراق قانونية من ضباط يعملون تحت إمرة عزيز أحمد في حرس الحدود في بنغلاديش. كانت الأوراق مختومة وموقعة ومشهود عليها من قبل مسؤولين من وزارة الخارجية، ومن قبل مدراء بنوك ومحامين وموظفي قنصليات في بنغلاديش والهند. كانت تلك سلسلة مطولة من الوثائق المزورة التي تحول بموجبها حارس أحمد إلى محمد حسن.

"إذا ما اضطر شقيقي إلى العودة، فإن الناس المسؤولين عن ذلك سيندمون."

الجنرال عزيز أحمد

كانت المكيدة على مستوى مذهل، فإلى أي زمن في الماضي تحتاج لأن تعود حتى توجد هوية مزيفة لمجرم سيء السمعة؟ يعرف الجواب على ذلك الرجل الذي تناط به مهمة حراسة حدود الوطن، إنه الجنرال عزيز، والجواب هو: عليك أن تعود إلى البداية وتحتاج في سبيل ذلك إلى معرفة الأشخاص الذي بوسعهم أن يعيدوك إلى تلك البداية.

أثناء القيام بالتحقيق في هذه الحكاية حصلت وحدة تحقيقات الجزيرة على ما يزيد عن خمسين وثيقة شكلت اللبنات التي بنيت منها هوية حارس الجديدة: شهادة ميلاد مزورة، شهادة زواج مزورة، شهادات علمية مزورة، حسابات مصرفية مزورة، تقارير شرطة مزورة، تواقيع مزورة صادق عليها محامون، وبالطبع، أهم وثيقة مزورة على الإطلاق، وهي جواز السفر.

جواز سفر حارس أحمد المزور والظاهر فيه اسم محمد حسن. [الجزيرة]

متسلحاً بالأوراق المزورة التي حصل عليها، انطلق محمد حسن الذي ظهر إلى الوجود للتو، وبدعم من شقيقه الجنرال، وعلى وجه السرعة راح يؤسس أو يشترى حصصاً في شركات داخل المجر ومنها – خليج البنغال وتيلرفيل ولبرهة قصيرة الاستشارات الأوروبية – والتي بإمكانها أن تتملك عقارات وتشغل مطاعم وتستورد وتصدر البضائع وحتى أن تقيم محل صرافة للسائحين.

بات حارس الآن مضطراً لتصريف كميات ضخمة من المال الذي يرد إلى أوروبا من بنغلادش، ولذلك فقد توجب عليه أن يستمر في التحرك وشراء العقارات والمشاريع التجارية والاستمرار كذلك في إنشاء الجديد منها للتغطية على مئات الآلاف من الدولارات. كانت فرنسا هي وجهته التالية حيث اشترى مستخدماً هويته الزائفة حصصاً في خمس شركات واشترى منزلاً في باريس. كان لاختيار أسماء الشركات رنيناً مألوفاً، مثل خليج البنغال وسينغذا. ولبرهة قصيرة تملك أيضاً تي بيه تي واي و إم إتش بيه بي القابضتين. وفي نفس المكان الذي سجل فيه عنوان إحدى شركاته كان لديه متجر للتحويلات المالية الدولية.

مصدر متخف

ساعد سامي محمد حسن في المجر ولكن الضغط كان يتصاعد من طرف الجنرال عزيز الذي بدأ يعبر عن حنقه من خلال سيل من رسائل الإيميل والرسائل النصية التي يبعث بها إلى بودابست. فقد كان قلقاً من أن حسن لم يكن يحقق اختراقاً في حياته الجديدة وأنه قد يضطر في نهاية المطاف إلى العودة إلى بنغلاديش. وما لبثت نغمة رسائله أن غلب عليها طابع التهديد. وبحلول صيف 2016 شعر سامي بالخطر، وذلك حين كتب إليه الجنرال يقول: "إذا ما اضطر شقيقي إلى العودة، فإن الناس المسؤولين عن ذلك سيندمون، وسوف يلعنون حياتهم، أعدك بذلك."

أراد سامي أن يعرف أكثر عن محمد حسن فقرر أن يستخدم معارفه في جيش بنغلاديش الذين أخبروه بألا يبحث بعيداً عن قائمة المذكرة الحمراء الصادرة عن الإنتربول (الشرطة الدولية)، وهي عبارة عن منصة إلكترونية تنشر فيها أسماء أخطر المجرمين في العالم. فقط اكتب الجنسية – بنغلاديش، واسم الشخص – حارس، ثم اضغط على الزر.

فما أن فعل ذلك حتى خرجت له صورة باهتة بالأسود والأبيض لمحمد حسن عندما كان أكثر شباباً وأكثر امتلاءً وأغلظ مظهراً، ولكن ما من شك في أنه كان نفس الرجل، إنه الرجل المدان بجريمة القتل حارس أحمد.

كان سامي قد تغول، فقرر أن السبيل الوحيد أمامه ليتحرر من عشيرة أحمد المتنفذة هو أن يتغول أكثر ويفضح شبكتهم الإجرامية. ولقد رأي ما يكفي ليدرك أن حارس كانت لديه علاقات قوية في المجر. حينها حصلت وحدة تحقيقات الجزيرة على مكسب جديد، مصدر متخف، بإمكانه أن يساعد في الكشف عن النطاق الكامل لتعاملات عشيرة أحمد.

رتب سامي للقاء عمل مع محمد حسن في فندق مطل على نهر الدانوب. جهز العاملون في الفندق مائدة إفطار فاخرة من الفواكه والقهوة والمعجنات وعصير البرتقال داخل جناح رجال الأعمال. برز ثلاثة أشخاص في زي رجال الأعمال الأنيق عبر شاشة اللابتوب – إنها مكالمة هاتفية من خلال برنامج سكايب مع لندن، مكالمة تعد بجني أرباح ضخمة من صفقة عقارية محتملة في بنغلاديش.

"رجال عصابتي هم كتيبة الفعل السريع، هم بلطجيتي."

حارس أحمد

كانت تلك عملية سرية. قدم سامي كلاً من حارس أحمد وشريكه في التجارة محمد رحمان، لمستثمر وهمي قال إنه يرغب في إنشاء فندق في بنغلاديش قيمته عدة ملايين من الدولارات. وحدة تحقيقات الجزيرة هي من رتب العملية بأسرها لكي تتعرف على الطريقة التي كان حارس يجني من خلالها الأموال.  

جلس حارس يدون أرقاماً على ورقة بينما انخرط رحمان في الحديث عن المشروع، ورحمان هذا يعمل في العادة وسيطاً لتسهيل معاملات الراغبين في من الحصول على الجنسية مقابل الاستثمار في كندا وفي غيرها. بدت الفرصة سانحة لجني الكثير من المال، ولذلك لا مجال لإضاعة الوقت.

قال رحمان مخاطباً المستثمر الوهمي: "أن تعمل شيئاً في بنغلاديش فكرة عظيمة في الحقيقة، ولكن هناك بعض المشاكل بسبب وجود قضايا سياسية وقدر قليل من الفساد. ولكن الشيء الجيد بالنسبة للسيد حسن أنه على علاقات ممتازة مع كبار المسؤولين، ولديه ارتباطات وثيقة بالحكومة، وبشكل خاص مع رئيسة الوزراء نفسها، التي تحبه كثيراً."

سجلت الكاميرات الخفية المشهد بينما كان حارس أحمد يزداد حماساً. وبينما كان النقاش يدور حول ملايين الدولارات، تناول هاتفه النقال ذا اللون الذهبي ودفعه باتجاه كاميرا اللابتوب. ما ظهر على الهاتف كان صورة له مع الجنرال عزيز في زيه العسكري الكامل وهو يرحب بكبار الضيوف الأجنبية. فسر رحمان حركة حارس التلقائية، مشيراً إلى الصورة وقائلاً: "من حيث المبدأ، في هذه اللحظة، شقيقه هو الذي يدير البلاد في واقع الأمر، لأن رئيسة وزرائنا تترك كل شيء لرئيس الجيش لكي يدير البلاد فيما يتعلق بالمشاريع التنموية الكبرى."

ثم مضى رحمان وحارس ليتعهدا بتوفير المدخل إلى أعلى المسؤولين منصباً في بنغلاديش، من المصارف إلى الوزارات، ومن كبار ضباط الجيش إلى رئيس الوزراء نفسها.

وعلى مدى الأسابيع التالية، استمر سامي في التعاون كمحقق سري، ينقب عن مزيد من المعلومات لمعرفة مصدر ثروة حارس. في التسجيلات السرية التي عملناها، يزعم حارس بأنه يجني أرباحاً من عقود المناقصات التي تبرمها حكومة بنغلاديش في أوروبا، سواء كانت لشراء أسرة لمعسكرات الجيش أو ذخيرة أو كمامات طبية. كما تحدث عبر ما زرعناه من ميكروفونات خفية كيف يجني المال من التعيينات داخل الجيش، ومن ترتيب إجراءات المحاكم، ومن استخدامه لكتيبة الفعل السريع، سيئة الصيت، في ابتزاز المال من رجال الأعمال.

يقول حارس إنه يدفع الرشاوي لرئيس كتيبة الفعل السريع ولأكثر رجال الشرطة في البلاد نفوذاً، فقد أخبر سامي: "رجال عصابتي هم كتيبة الفعل السريع. لا أحتاج إلى بلطجية، فهؤلاء هم بلطجيتي. هم يعتقلون شخصاً ما ويحتجزونه. هم يجنون المال وأنا أجني المال. إنها صفقة بسيطة ومباشرة."

حارس وعزيز أحمد بصحبة مجموعة من الشخصيات الأجنبية [الجزيرة]

استعراض للقوة وممارسة للتحدي

ولكن ماذا عن عشيرة أحمد بشكل عام؟ بعد شهور من تعقب حارس أحمد، بلغتنا معلومة تفيد بأن الجنرال عزيز قد يلتقي بأشقائه في العاصمة الماليزية كوالا لمبور.

ينبعث صدى الإعلانات من سماعات مطار كوالا لمبور الدولي في قاعة وصول المسافرين بحثاً عن أصدقاء أو أقارب. وقف بين الجمهور رجلان، كل منهما يرفع هاتفه النقال إلى أذنه، ينتظران ويبحثان عن شخص يخرج من قاعة الجمارك. حارس وجوزيف كانا في استقبال شقيقهما، الجنرال عزيز.

كما كشف بحث في البيانات عن عنوان، ويشير سجل أراضي إلى أن منزلاً ضخماً له بوابات خارجية قد تم شراؤه من قبل محمد حسن وأنيس أحمد، الشقيق الآخر الذي لاذ بالفرار في عام 2007 ولم يشاهده أحد في مكان عام من ذلك الوقت.

صك ملكية يظهر شراء أنيس وحارس - تحت الاسم المستعار محمد حسن قطعة أرض في ماليزيا [الجزيرة]

مع حلول المساء انساب موكب سيارات تحمل اثنتان منها لوحات دبلوماسية، عبر البوابات إلى داخل المنزل الضخم في وسط كوالا لمبور. يخرج الجنرال عزيز وبرفقته جوزيف بخفة تحت زخات المطر. ويظهر من خلف البوابات أنيس أحمد، وبهذا تكون وحدة التحقيقات قد تقفت آثار آخر المفقودين من الأشقاء.

في اليوم التالي، وتحت غطاء ليل عاصف، راقبنا عشيرة أحمد وهم يعبرون برفقة موكب دبلوماسي من خلال البوابات الأمنية لمقر المفوضية العليا لبنغلاديش في الجوار، حيث قضوا تلك الأمسية.

قبل أسبوع من ذلك، في مارس / آذار من عام 2019، نظم حفل حضره علية القوم في المجتمع في دكا لزفاف نجل الجنرال عزيز. كان حدثاً باذخاً استمر لعدة أيام بمشاركة آلاف الضيوف على أنغام عزفتها فرق موسيقية عسكرية داخل نادي عسكري خاص. تمكنت وحدة التحقيقات من الحصول على عدة صور التقطت سراً أثناء الاحتفالات.

حارس أحمد (يسار)، عزيز أحمد (في الوسط) والرئيس محمد عبد الحميد على اليمين [الجزيرة]

كان ذلك استعراضاً غير عادي للثراء والنفوذ. بل كان حدثاً يعكس مدى الجرأة في تحدي الرأي العام. ظهر الأشقاء الأربعة من عشيرة أحمد، اثنان منهم كانا مجرمين مطاردين هاربين من العدالة، واختلطوا بالنخبة السياسية والعسكرية في بنغلاديش، وكان ضيف الشرف هو رئيس البلاد محمد عبد الحميد.

كانت تلك رحلة طويلة لعائلة أحمد، ولكنهم وصلوا في النهاية. من بداية متواضعة جداً كمافيا تمارس الجرائم الصغيرة في شوارع محمد بور، غدت العشيرة الآن تحكم قبضتها على مؤسسات الدولة في بنغلاديش.

تواصلت وحدة تحقيقات الجزيرة مع جميع من وردت أسماؤهم في التحقيق، بما في ذلك رئيسة الوزراء ورئيس الدولة، ومحمد رحمان الذين كان حينها رئيس كتيبة الفعل السريع، وجميع الأشقاء من عشيرة أحمد – ودعتهم للرد على ما خلص إليه تحقيقها، ولكن لم يرد أحد منهم قد نشر التحقيق.

وبعد نشر التحقيق، أصدرت وزارة الخارجية في بنغلاديش بياناً وصفت فيه نتائج تحقيق الجزيرة بأنهم مجرد "حملة تشويه" يقف من خلفها معارضون للنظام يقيمون في الخارج. ورفضت الوزارة تصريحات حارس، شقيق رئيس هيئة أركان الجيش معتبرة ألا أساس لها من الصحة، وقالت إن حارس أحمد ليس له أي علاقات برئيسة الوزراء الشيخة حسينة أو مع أي مؤسسات أخرى من مؤسسات الدولة.