كيف كشفت السياسيين الراغبين في بيع جوازات السفر في قبرص

مقال طويل

كيف كشفت السياسيين الراغبين في بيع جوازات السفر في قبرص

نظرة من الداخل على عمليات التخفي المتعلقة بمخطط جواز السفر الذهبي في قبرص.

13 أكتوبر 2020 | 34 دقيقة قراءة


مرحباً. أنا آنجي. أنا سيدة أعمال، مساعدة شخصية، مليونيرة، فتاة حفلات، وأي شخصية أرغب في انتحالها. في الحقيقة أنا مراسلة أعمل في الخفاء.

في العام الماضي، كنت أجلس لتناول غداء متأخر على شاطئ البحر المتوسط في آيا نابا على الساحل الجنوبي لجزيرة قبرص. كانت المحادثات والمشاريب تنساب بحرية، بينما كان النادل يقدم لنا لقيمات من لحم الكركند الطازج. كنت أثناء تناول الطعام أقوم من حين لآخر بإجراء فحص فني، فالبطارية التي تعمل لساعات طويلة كانت حرارتها المرتفعة تلسع جلدي، بما يدل على أن الكاميرات الخفية مازالت تسجل. كانت تلك هي الساعة الخامسة من اليوم الثالث.

كان رفاقي على الغداء يستمتعون بنسيم البحر الدافئ.

"في المرة القادمة التي نكون فيها هنا سنستقل جميعاً قارباً، وسيكون ذلك لطيفاً جداً."

أندرياس بيتادجيس

قال المحامي أندرياس بيتادجيس: "في المرة القادمة التي نكون فيها هنا سنستقل جميعاً قارباً، وسيكون ذلك لطيفاً جداً."

ينحدر أندرياس من سلاسلة من المحامين، وهو شريك في مؤسسة والده القانونية، حيث يعمل على عدد من القضايا الكبيرة. التقينا للمرة الأولى في اليوم السابق، ولكن سرعان ما توطدت العلاقة بيننا رجاء أن نتعاون في تنفيذ بعض المشاريع المربحة.

كنت أنا وزميلي نتظاهر بأننا نمثل عميلاً وهمياً بلا اسم، نشير إليه بلقب "السيد إكس"، والذي يفترض أنه رجل أعمال صيني ثري جداً، هرب من الصين بعد أن وجهت له تهم بالرشوة وغسيل الأموال. ثم صدر بحقه حكم غيابي بالسجين سبع سنين. وهو الآن يرغب في شراء جواز سفر قبرصي. قيل لنا إن أندرياس هو الرجل الذي يقدر على مساعدتنا في إنجاز ذلك، على الرغم من أن المجرمين المدانين لا يجوز لهم الحصول على جوازات سفر من خلال برنامج الاستثمار القبرصي.

قال لنا أندرياس: "لا يوجد حالة جواز سفر واحدة نظيفة أو واضحة، واضحة وضوح الشمس. ولا واحدة. كلها فيها مشاكل، ولهذا يرغبون في الحصول على جواز سفر. الجميع لديه مشاكل. الجميع بلا استثناء."

كان حكواتياً آسراً ولديه ميل نحو الدراما. بمسحة من التواضع الزائف، كان يتمتع بسرد حكايات علينا مما كان يمر به من طلبات جوازات سفر صعبة نجح في كل مرة بحل إشكالاتها وتمريرها عبر النظام.

كان معنا على الطاولة أيضاً الرجل الذي عرفنا عليه. بشعره المملس إلى الخلف، وقميصه المزركش وثغره البسام، كان طوني كيه صورة طبق الأصل عن مبرم الصفقات المحنك القادم من كوستا ديل سول (ساحل الشمس). إنه بريطاني يدير وكالة للعقارات في قبرص بالتعاون مع زوجته دنيس. نجح الاثنان معاً في حفر مشكاة مربحة لهما داخل الجزيرة، يساعدون عبرها المستثمرين في قطاع العقارات في الحصول على جواز سفر أوروبي من خلال برنامج الاستثمار القبرصي.

تسمح هذه "الجوازات الذهبية" للأجنبي الذين يستثمر 2.5 مليون دولار بالحصول على جواز سفر، ومن ثم بالحق في العيش والعمل في أي مكان داخل الاتحاد الأوروبي. أدخلت هذه الجوازات على قبرص ما يزيد عن 8 مليار دولار منذ عام 2013، ومعظم هذه الأموال توجهت نحو قطاع العقارات.

[رسم توضيحي: أديب أجاجيشي/الجزيرة]

تجارة بيع جوازات السفر

كانت عائلة كيه أول "أصدقاء" لنا في الجزيرة. لم يثنهم عنا أننا صارحناهم بالهدف من زيارتنا. وعندما قابلناهم للمرة الأولى في غرفة فندقنا: "أظن أنني على حق عندما أقول، بصراحة، إن الأمر لا يتعلق بالاستثمار أو بأي شيء آخر بقدر ما يتعلق بضمان الحصول على جواز سفر لهذا العميل." فوافقناه على ذلك.

تشكل الانطباع منذ اللحظة الأولى أننا إنما جئنا لغاية واحدة لا غير، ألا وهي شراء جواز سفر أوروبي لعميلنا صاحب السجل الإجرامي، السيد إكس، ولحسن الطالع كان من تواصلنا معهم في قبرص ضالعين في تجارة بيع الجوازات.

قال لنا طوني: "حيثما وجدت مشاكل فسوف يتطلب تحقيق هذه الأشياء مالاً أكثر. ولذلك، ما سنفعله هو معرفة من هي الشخصيات التي نحتاج للحديث معها ومن هي الشخصيات التي ينبغي أن ندفع لها، وما الاستثمارات التي نحتاج لأن نعملها."

ولتحفيزهم، قلنا لهم إن هناك الكثير من العملاء في آسيا ممن قد يهمهم الأمر فيما لو مضت هذه العملية على خير. ولذلك رأي أندرياس أنه إذا كان ثمة عملاء محتملين آخرين فسيكون من الأفضل المضي قدماً بلا تأخير. كان ذلك في شهر أكتوبر / تشرين الأول 2019، والفرصة السانحة قد لا تظل متاحة لوقت طويل.

ولذلك قال لنا: "تم تغيير برنامج جواز السفر في يناير من هذا العام ... وهم يفكرون في تغييره تارة أخرى، بحيث يصبح أشد صعوبة. ولهذا أقول إنه إذا كان لديكم أشخاص بحاجة إلى جواز سفر الآن، فلا تنتظروا."

وكانت القوانين قد شددت بعد أن تعرض برنامج الاستثمار القبرصي للنقد.

وهذا ما شرحه لنا أندرياس حين قال: "وذلك لأنهم يعتقدون أننا نبيع الجوازات، فالبرنامج يتعرض لهجوم من الاتحاد الأوروبي، ويتعرض للهجوم من المفوضية الأوروبية، ويتعرض للهجوم من قبل سلطات مكافحة غسيل الأموال."

إلا أن طوني أصر على الرغم من ذلك أن قبرص ماتزال هي الخيار الأفضل حتى الآن.

وقال: "إنها خطة رائعة، في هذا الوقت، للحصول على جوازات سفر صادرة عن الاتحاد الأوروبي. ولكن، مثلها مثل أي شيء، من يدري إلى متى ستدوم؟ بعد تسعة شهور أو عام من الآن سوف يغيرون ويبدلون، وسيقولون إن عليكم استثمار المزيد من المال أو عليكم أن تتركوا المال هنا مدة أطول، أو عليكم أن تقيموا ربما في قبرص لمدة من الوقت، أو عليكم أن تتعلموا اللغة."

’بالطبع... هذه هي قبرص

بعد أن انتهينا من الغداء وهممنا بالانصراف، كنت قد تشبعت بالمعلومات كما تشبعت بالسمك. وكانت البطاريات التي تشغل الكاميرات تلفظ أنفاسها الأخيرة. ولكن، مازال هناك سؤال مفصلي لابد من توجيهه إلى من مهمتهم إيجاد حلول للمشاكل.

حاولت أن أبدو مسترخية، ولكن في الواقع كان يساورني القلق من أنني قد أفسد الأمور إذا طرحت السؤال، وقلت في نفسي لربما يكون من الأفضل أن أتركه ليوم آخر، حتى أتأكد من أن لدي في البطاريات ما يكفي لتوثيق الإجابة. ولكن الأمسية كانت مريحة وشعرت أن أندرياس كان مزاجه حسناً وكان منطلقاً في الحديث، ولربما لا تتاح مثل هذه الفرصة في وقت آخر. ولذلك سألت:

"هل بإمكان عميلنا أن يغير اسمه في جواز السفر الجديد، ولو بقدر بسيط؟"

لم يتردد أندرياس لحظة في الإجابة، فقال: "بإمكاننا أن نسميه أندرياس الصغير. لدي عميل أصبح اسمه الآن هو الاسم الذي يتسمى به نصف الناس في الولايات المتحدة. ولكن فيما لو دققت في اسمه الأصلي، فإنه لن يتمكن حتى من السفر بذلك الاسم. ولذا، عملنا إفادة هنا في قبرص، وغيرنا اسمه، وغيرنا جواز سفره. وهو الآن يسافر بجواز سفره الجديد، ولا أحد يعرف."

سألته: "حقيقي؟ قمتم بذلك من قبل؟"

"بالطبع، هذه هي قبرص."

تلك كانت إجابته، وهو يهز كتفيه ضاحكاً ويتوجه نحو سيارته ذات اللون الأسود اللامع.

ذلك يعني أن السيد إكس بإمكانه الحصول على جواز سفر جديد وبإمكانه أن يغير هويته بشكل كامل، بما يحرره من أي تبعات قد ترتبط بماضيه الإجرامي. كانت تلك الإجابة بمثابة تأكيد على أن الثغرات الموجودة في النظام تسمح للمجرمين بالاختفاء، وتمكنهم من التهرب من العدالة على الساحة الدولية، وتضمن لهم أن ثرواتهم لا يلطخها ما ارتكبوه من جرائم. يا إلهي، تمنيت لو أننا تمكنا من توثيق ذلك بالكاميرا.

[رسم توضيحي: أديب أجاجيشي/الجزيرة]

’عندما تعرف الملائكة فإنك لن تحتاج الله‘

أمضينا الصباح التالي في جولة بعدد من المساكن الفارهة في المناطق المحيطة بالجزء الجنوبي الشرقي من الجزيرة، والتي يمكن للسيد إكس أن يستثمر فيها. كانت كلها مشاريع تقوم على تنفيذها مجموعة جوفاني، وهي واحدة من أكبر شركات التطوير العقاري في قبرص. يترأس هذه المجموعة شخص اسمه كريستاكيس جوفانيس، والذي يعرف أيضاً في قبرص باسم كريستاكيس جوفاني. وهو أيضاً عضو في البرلمان.

أخبرنا طوني وأندرياس أن كريستاكيس شخص مهم ومن المفيد التعرف عليه، فهو صانع المعجزات، إذ أنه يعرف جميع الشخصيات التي قد نحتاج إلى مساعدتها فيما نحن بصدده.

شرح ذلك لنا أندرياس بقوله: "عندما تعرف الملائكة فإنك لن تحتاج الله."

كل هؤلاء كانوا جزءاً من فريق من الممكنين المتخصصين. وكانت معارف كريستاكيس واتصالاته في غاية الأهمية من أجل تجاوز العقبات التي تواجهنا. التقينا به على العشاء في مطعمه الياباني المفضل. كان لكريستاكيس وجه طيب كما الجد. جلس في الزاوية ولم يكثر من الحديث. ولكن عندما تحدث، فقد تحدث بصوت خافت ونبرة ناعمة، لدركة أنه كان يصعب سماعه في ضوضاء المطعم، فاقتربت منه أكثر حتى يتاح لجهاز التسجيل التقاط كلامه.

ترك كريستاكيس الحديث لمساعده وذراعه الأيمن أنطونيس أنطونيو، المدير التنفيذي لمجموعة جوفاني، واكتفى من حين لآخر بهز رأسه بينما مضى بهدوء يتناول وجبة العشاء المكونة من صلصلة التونا وسمك الدنيس.

شرح لنا أنطونيس الخطوات القادمة في سعينا للحصول على جواز السفر، وأخبرنا أن أكبر عقبة ستواجهنا فيما يتعلق بالسجل الجنائي لعميلنا هي تمرير ملفه من خلال البنوك وجلب أمواله إلى قبرص.

وقال: "يتمثل الجزء الأول في كيفية تعبئة بيان "اعرف عميلك" بشكل جيد من أجل تيسير وصول المال إلى قبرص. ثم من خلال ضبط الملف وتمريره عبر البنوك سيكون باستطاعتنا استقبال المال هنا في قبرص."

"اعرف عميلك" عبارة عن عملية تدقيق يقوم بها العاملون في قطاع المال من أجل تقييم المخاطر التي قد تنجم عن المعاملات. وهي جزء من الإجراءات التي يقصد بها قطع الطريق على غسيل الأموال. وهذا هو المجال الذي يبرع فيه أندرياس، الذي عاد فيما بعد وشرح لنا أهمية إعداد بيان "اعرف عميلك" بشكل جيد بحيث يرسم الصورة المناسبة الكفيلة بتمرير الملف عبر البنوك.

وبينما كان يغوص معنا في التفاصيل، جاءنا الطاهي بما بدا كمية لا حد لها من الأطباق فيها مختلف أنواع السلطات والساشيمي. ومع امتلاء الطاولة بالأطباق والكؤوس صار تصوير الجلسة وما يدور فيها من حديث أكثر صعوبة.

ثم ما لبث أنطونيس وكريستاكيس أن غادرا لكي يستقلا طائرة تغادر في وقت متأخر من الليل في رحلة عمل سريعة. وطلبا منا تمديد إقامتنا في الجزيرة ليوم آخر إلى أن يعودا. قال لنا طوني واعداً: "سوف تجدان أن ذلك سيكون مفيداً جداً."

’كلما كان أعلى كلما كان أفضل‘

أتيح لنا خلال الأيام الأربعة التي قضيناها في قبرص التجول في عدة مواقع – من الكهوف المغمورة في البحر والهياكل الصخرية في كيب غريكو إلى مشاهد الحفلات على شاطئ نيسي.

وكان طوني قد أكد لنا خلال ذلك أنه: "إذا أرسلتم العملاء إلى هنا، فعندما يصلون سنرافقهم ونعتني بهم، وسيلقون أفضل معاملة على الإطلاق. وعندما يغادرون هذا المكان سيكونون قد وقعوا في حب قبرص، وسوف نحقق لهم كل ما يصبون إلى تحقيقه."

على مدى سلسلة من ثلاث دعوات على الغداء ودعوتين على العشاء، ولساعات طويلة، كان مستشارونا القبارصة يشرحون لنا خارطة الطريق التي سنسلكها من أجل ضمان الحصول على جواز سفر أوروبي لعميلنا صاحب السجل الجنائي. فأندرياس وكريستاكيس كلاهما مسجلان لدى برنامج قبرص للاستثمار كوكلاء لتقديم الخدمات. وبدلاً من إخبارنا بأن السيد إكس غير مؤهل للحصول على جواز سفر، قدما لنا شرحاً تفصيلياً، الخطوة حذو الخطوة، للسبل المحتملة لتحقيق غايتنا. كان ذلك بمثابة مخطط لغسيل الأموال – نقل أموال السيد إكس إلى قبرص، بالرغم من سجله الجنائي، عبر البنوك وإقناع الحكومة طوال ذلك بغض الطرف عما يجري.

أصابتني الدهشة، وكنت قلقة أيضاً، لأننا تمكنا من قطع كل تلك المسيرة دون أن نبوح باسم السيد إكس أو نكشف عن هويته.

كشف لنا أندرياس عن سر من أسرار المهنة حين تحدث عن وجود مسارين في نظام تقديم الطلب للحصول على جواز السفر، أحدهما هو المسار الرسمي.

وشرح ذلك أندرياس بقوله: "مازال بإمكانكم الحصول على جواز سفر مقابل مليوني يورو. ولن يقول أحد لا."

إلا أن المسار الثاني يتطلب دفع مال أكثر.

ومضى يوضح لنا قائلاً: "تمنح المعاملة المميزة والتفضيلية للأشخاص الذين يشعر المجتمع والحكومة أنهم لا يشترون جواز السفر. إنهم المستثمرون ... أولئك الذين يفوقون الحد يعاملون بشكل مختلف. لن يعترف أحد بذلك، لن تروه في أي كتاب ولا في أي قانون. في رأيي المتواضع، إذا كان هذا الشخص مهتماً ولديكم المشاكل التي تحدثتم عنها، فينبغي عليه أن يلزم نفسه باستثمار أكبر. إذا كانت هناك مشاكل ونريد لجواز السفر أن يصدر سريعاً، علينا أن نرفع السعر. إلى كم نرفعه؟ الأمر يتوقف عليكم. كلما كان أعلى كلما كان أفضل."

[رسم توضيحي: أديب أجاجيشي/الجزيرة]

’ربح سريع‘

عندما عاد أنطونيس من رحلته جاء ليأخذنا في جولة حول الجزيرة بسيارته الرينج روفر الفضية. لم يحل ارتفاع حرارة الجو ما بعد الظهيرة دون الحفاظ على أناقته، وقد رفع أكمام قميصه الأزرق على ذراعيه بشكل وسيم، بينما ساعته الفاخرة تلمع عاكسة أشعة شمس ما بعد الظهيرة.

قال لنا أنطونيس: "لديكم الكثير من الفرص حيث يمكن لشخص ما أن يجني ربحاً سريعاً."

مررنا بمحاذاة صن سيتي، وهو عبارة عن مشروع تقوم بتنفيذه مجموعة جوفاني للتطوير العقاري ويتكون من فندق وسلسلة من الفلل المطلة على الشاطئ.

قال أنطونيس: "مستثمرونا في صن سيتي ... أصدرنا لهم جوازات سفر بسرعة جداً ... لأنهم استثمروا 18 مليون يورو." وأضاف مطقطقاً أصابعه: "حصلوا على جوازات السفر هكذا. وكلما استثمرت أكثر كلما كانت الأمور أفضل. إذ بإمكانك تتخطى طابور الانتظار، كما نقول."

كان يفكر لنا بمشروع – فرصة استثمارية مدهشة بإمكان عميلنا أن ينضم إليها مبكراً. لم نلبث طويلاً حتى فهمنا أن الاستثمار الذي يسعى إليه أكثر بكثير من مبلغ الـ 2.5 مليون دولار التي يطلبها برنامج الاستثمار في قبرص.

توقفنا عند قطعة أرض غير مستغلة بمحاذاة الماء، على بعد عشر دقائق بالسيارة من موقع صن سيتي، وهي عبارة عن قناة بحرية خلابة في ليوبتري، الماء فيها رائق ونقي، والمكان هادئ يغشاه السكون، شتان بينه وبين الشواطئ الأخرى المطروقة بكثافة والمزدحمة بالسائحين.

قال لنا أنطونيس: "إذا كان لديكم أشخاص أثرياء يرغبون في أن يكون لهم فندق خمسة نجوم على الشاطئ، فهذا المشروع هو رقم واحد على القائمة. عشرون مليون يورو. والباقي بإمكاننا الحصول عليه من بيع الشقق."

كان المقترح هو الحصول على الأرض ثم تشييد فندق خمسة نجوم عليها تديره مؤسسة فندقية عالمية شهيرة.

’لا أحد يعير ذلك اهتماماً‘

في تلك الأثناء كانت لدى أندرياس بعض الأفكار حول كيف يمكننا جلب أموال السيد إكس، على الرغم من إدانته بتهمة غسيل الأموال. أحد الخيارات، كما شرح لنا، كان استخدام شركة وهمية (واجهة) لم تتلطخ بالسجل الجنائي لصاحب الطلب.

وقال وهو جالس إلى درج مكتبه وخلفه صورة ضخمة لغاندي ومسيرة الملح: "ليست كل الشركات مجرمة. كان لدي عميل أدين بجناية، ولكنه مع ذلك تمكن من عمل استثمار في قبرص لأن مصدر المال كان واضحاً."

والطريقة الأخرى التي بإمكان السيد إكس الاستثمار من خلالها في قبرص هي أن يفعل ذلك باسم زوجته، بحيث تكون قرينته هي المستثمر الرئيسي وسوف يكون باستطاعته الدخول برفقتها باعتبارها العائل له. فبموجب برنامج الاستثمار في قبرص، بإمكان شريك الحياة أو الطفل التقدم بطلب الحصول على جواز السفر باعتباره معولاً من قبل المستثمر الرئيسي.

قال أندرياس شارحاً: "لن يدققوا في البنك في خلفية الزوج. سوف يدققون في وضع المستثمر، الذي يجلب المال. فإذا كان الشخص الذي يأتي بالمال عبارة عن شركة لا علاقة لها بالعميل، فلن يكتشف ذلك أحد، ولا تجد من يعير ذلك اهتماماً."

وأضاف موضحاً إنه بمجرد أن يمر الطلب عبر البنوك فإن معارف كريستاكيس سيتكفلون بتسيير الطلب بقية الطريق، وقال: "عندما يصل الطلب إلى الحكومة ستحصلون على مساعدة كريستاكيس. وسيقوم كريستاكيس بالدفع حتى يغضوا الطرف عن الزوج لأنه ليس المستثمر الرئيسي."

أدهشتنا السهولة التي تحدثوا بها جميعاً عن الطرق الكفيلة بضمان حصول شخص مدان جنائياً على جنسية دولة في الاتحاد الأوروبي. فالنصائح التي حصلنا عليها، بما في ذلك استخدام شركات وهمية، والاختباء وراء مدراء معينين، والتأثير على موظفي الدولة حتى يغضوا الطرف عن السجل الجنائي للعميل، واختلاق الأدلة لإثبات نظافة مصادر الأموال، ورسم الصورة المناسبة للبنوك، كانت إجراءات عملية جداً لدرجة تشعرك بمدى سرياليتها – وكأننا كنا نبعث إلى الحياة من جديد أوراق بنما. إذا كانت أوراق بنما كشفت النقاب عن أن شركات وهمية كانت تستخدم للاحتيال والتهرب الضريبي والالتفاف على العقوبات الدولية، فنحن هنا كانت تقدم لنا خطة واضحة المعالم لكيفية تحقيق كل ذلك.

وجدنا صعوبة في التوفيق بين كثير من "الحلول" التي كانوا يصفونها لنا وبين اللوائح والنظم القبرصية التي تجرم غسيل الأموال. فبالنسبة لي، دفع تبرع مالي مقابل الحصول على دعم لطلب السيد إكس أشبه ما يكون بالفساد والرشوة، ومع ذلك كانت شبكة الممكنين في قبرص تصر على أن القيام بذلك ليس خارجاً عن القانون.

قال لنا أندرياس: "لا يمكنك تجاوز النظام، وإنما عليك أن ترقص على أنغام موسيقى اللوائح والنظم."

[رسم توضيحي: أديب أجاجيشي/الجزيرة]

’أنتم في مملكتي‘

خلال أيام قليلة، وطدنا علاقاتنا مع طوني، وكيل العقارات الذي يتخصص في استصدار جوازات السفر، وأندرياس، المحامي الذي تتوفر لديه المهارة في إعداد بيان "اعرف عميلك" والذي من شأنه أن يمكن السيد إكس من المرور عبر البنوك، وكريستاكيس، عضو البرلمان ومالك مؤسسة العقارات الذي لديه من العلاقات ما يكفي لجعل الحكومة تغض البصر.

لم يدخر مضيفونا وسعاً في الإغداق علينا بكرمهم. قال لنا أندرياس: "أنتم في بلدي، أنتم في مدينتي، أنتم في مملكتي. لا يجوز لكم أن تدفعوا، فتلك ستكون إهانة عظيمة."

ولكن بدون تقديم اسم ولا بطاقة تعريف أو جواز سفر لعميلنا السيد إكس، بدأ صبرهم ينفذ. فكانوا كل يوم يحثوننا على تزويدهم ببطاقة التعريف به أو بنسخة من جواز سفره، وكنا في كل يوم نجد سبلاً للتملص والتسويف. ولكن غدت المماطلة في الاستجابة لهم تزداد صعوبة يوماً بعد يوم.

وفي الليلة التي سبقت موعد مغادرتنا كنت وزميلي نتناول العشاء مع أندرياس في حانة محلية، فقال لنا إنه تلقى مكالمة من كريستاكيس يعرب له فيها عن ارتيابه.

أخبرنا أندرياس أن كريستاكس سأله، وهو يتحدث معه عن غداء كان من المقرر أن نحضره في بيته في اليوم التالي: "يا أندرياس، سوف أدعو إلى هذا الغداء الرجل الثاني في موقع القيادة في كل قبرص، ومازلنا لا نعرف عن أي شخص نتكلم. فهل ألغي الغداء؟"

جعلني ذلك أتساءل في نفسي عما إذا كنا سنتمكن من الخروج بسلاسة.

إلا أن أندرياس أخبرنا أنه طمأن كريستاكيس وبدد مخاوفه. وقال لنا: "قلت لكريستاكيس، هل ترى هؤلاء الناس، أنا الذي أجازف، أنا أكفلهم."

وعده زميلي بأننا، نعم، غداً سنرسل بطاقة التعريف. تلاشى التوتر، ولكننا كنا بكل وضوح غاية في القلق.

’الدعم الكامل‘

في اليوم التالي، بدا لنا أن الدعوة التي تلقيناها لتناول الغداء في منزل كريستاكيس كانت فوق ما كنا نتوقع، فهل كانت مصيدة للإيقاع بنا؟ هل انكشف أمرنا؟

من أجل السلامة والأمان، أتجنب عادة اللقاءات التي أكون فيها متخفية إذا تمت في مضمار الشخصية التي نستهدفها. فذلك يعرضني للانكشاف، ويتركني عاجزة عن استطلاع المكان أولاً أو عني وضع استراتيجية للخروج.

ولكننا مضينا قدماً هذه المرة، وبقينا على تواصل مع فريقنا المتواجد في مكان قريب، تحسباً لطارئ قد يؤدي لأن تفلت الأمور من عقالها.  

وكالعادة، بادرت بمد يدي للمصافحة تجنباً لأي عناق غير مريح بينما أخفي طي ملابسي أجهزة التسجيل.

كان بيته مهيباً، واستقبلتنا عائلته بترحيب كبير. كان بانتظارنا في الداخل ضيف مهم جداً. إذ كان العشاء على شرف رئيس مجلس النواب ديمتريس سيلوريس، صاحب ثاني أعلى منصب في الدولة.

وكان من بين الحضور بعض الناس الذين قابلناهم خلال الأيام الأربعة التي قضيناها هناك، بما في ذلك طوني وأنطونيس.

لعله من النادر أن تتاح الفرصة لصحفي حتى يرى مسؤولين منتخبين – عضو في البرلمان ورئيس للبرلمان – في جلسة عائلية يحيط بهم أحبتهم. فنحن نبذل جهداً كبيراً في سبيل إقامة علاقات صداقة مع الشخصيات التي نستهدفها، لنكسب ثقتهم ونتعرف على دوافعهم. نجني ثمار تلك الجهود في يوم كهذا عندما نتمكن من الولوج إلى دائرتهم الداخلية ونحظى بدعوة للعشاء في منزلهم مع أفراد عائلتهم. ولكن كلما اقتربت أكثر كلما كان ذلك أصعب. إنه التناقض الذي لا مفر منه حينما تكون مراسلاً متخفياً.

كان تلك عطلة نهاية الأسبوع، أعدوا لنا فيها مائدة مما لذ وطاب. كان الجميع في حالة من الاسترخاء، وصدى الضحكات يتردد في جنبات البيت. فتح كريستاكيس زجاجة من مجموعة النبيذ التي يكتنزها ويعتز بها.

"يماس"

تبادلنا الأنخاب وتمنينا الصحة للجميع. إلا أن الكؤوس كانت تعترض سبيل الكاميرات.

أحيط ديمتريس علماً بحالة السيد إكس، وفهم أن عميلنا بحاجة إلى الخصوصية. أخذ ذلك بالاعتبار، وفي حديث خاص، بعيداً عن الحفل، قدم لنا مقترحاته.

أشار ديمتريس إلى أنه سيقوم شخصياً بمناقشة طلبنا مع من يهمهم الأمر من المسؤولين، وقال: "سوف أتصل بالوزير وأطلب منه المجيء إلى مكتبي، وكذلك السكرتير الدائم للوزير. أوكيه؟ يأتي إلى مكتبي. وهناك سأقول له ما ظنك بهذا؟"

وأضاف: "وقد يقولون لي، أوكيه، دعك منه. ماذا عن زوجته؟ إذا كانت الزوجة أوكيه، فسنمضي قدماً مع الزوجة. ثم هي تجلبه بوصفه زوجاً لها."

ولكن هناك خيار آخر. إذا لم تسر الأمور كما يجب في قبرص، فهو يعرف رؤساء برلمانات في دول أخرى وسوف يتوسط لنا حتى نقدم طلبات في تلك البلدان.

شرح لنا ذلك قائلاً: "بإمكاني عمل شيء في العديد من البلدان. فأنا أعرف جميع رؤساء البرلمانات. أنا لا أتحدث عن السويد أو الدنمارك، وإنما أعرف مالطا، وأعرف لاتفيا، وأعرف سلوفينيا."

وطلب منا طمأنة عميلنا إلى أنه سيكون هناك حل، وقال: "بإمكانكم إخباره، دون ذكر اسمي أو اسم أي شخص آخر، أنه سيحصل على دعم كامل من قبرص على أي مستوى – سياسي، اقتصادي، اجتماعي، أي شيء. الدعم الكامل."

بذلك الوعد كشف ديمتريس عما كان يريده في المقابل. وذلك أن إمكانية أن نأتي بالمزيد من أصحاب الثراء ليشتروا جوازات سفر كانت محفزاً كبيراً بالنسبة له. فمع اقتراب موعد بريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) وما تشهده هونغ كونغ من عدم استقرار، قال إن الكثيرين قد يرغبون الآن في أن يحظوا بحرية الحركة والإقامة داخل الاتحاد الأوروبي.

وقال لنا: "هناك الكثيرون ممن يرغبون في الحصول على جواز سفر أوروبي، أحضروهم لنا هنا في قبرص."

وقال إننا يمكن أن نحظى بتجارة رابحة إذا ما مكنا عملاءنا من الاستفادة من علاقاته ومن مطوري العقارات في البلد.

وقال: "وسيكون هذا عملاً مربحاً جداً بالنسبة لكم ولأنطونيس. أوكيه، مع الدعم الكامل لكم."

حظينا بمباركة رئيس البرلمان. ولكن على أن يبقى الأمر سراً.

قال لنا ديمتريس: "لا تخبروا أحداً بذلك. ولا حتى طوني. لا تقولوا إنني تحدثت معكم. لأنني يتوجب علي حماية اسمي كذلك."

هل كانت لديه الثقة بأن بإمكانه المساعدة في استصدار جواز سفر لمقدم الطلب صاحب السجل الجنائي، السيد إكس؟

أجاب على ذلك قائلاً: "لا يمكنني القول 100 بالمائة، ولكن أقول 99 بالمائة."

هذ جيد بما فيه الكفاية. زاد وزني بسبب المبالغة في الأكل، ولكن فيما عدا ذلك، كان تحقيقنا ناجحاً.

بعد عام من ذلك، وعندما ووجهوا بالدليل، نفى جميع المعنيين ارتكاب أي مخالفات وزعموا أنهم كانوا يرتابون فينا منذ البداية. وقال أندرياس بيتادجيس إنه بلغ عنا وحدة مكافحة غسيل الأموال في قبرص بعد يومين من مغادرتنا للجزيرة. وأما كريستاكيس وطوني كيه وأنطونيوس أنطونيو ومجموعة جوفاني فقالوا جميعاً إنهم دعموا البلاغ الذي تقدم به أندرياس بيتادجيس.

بعد نشر التحقيق، أعلنت الحكومة القبرصية إنهاء برنامج الاستثمار القبرصي. وبدأ المدعي العام جورج سافيديس تحقيقاً كاملاً في الأدلة التي وردت في البرنامج الوثائقي. وعلق ديمتريس سيلوريس، رئيس مجلس النواب، القيام بواجباته إلى حين استكمال التحقيق، بينما استقال كريستاكيس جوفاني من منصبه كعضو في البرلمان ومن جميع مواقعه الأخرى داخل الحزب التقدمي للعمال (إيه كيه إي إل).