كوريا الشمالية: الكيمياء، وجريمة القتل، ثم الكاريوكي

مقال طويل

كوريا الشمالية: الكيمياء، وجريمة القتل، ثم الكاريوكي

تعرف على الرجل المتهم بتدبير السم الذي قتل كيم يونغ نام، الأخ غير الشقيق لزعيم كوريا الشمالية

2 مايو 2019 | 14 دقيقة قراءة


إنه مشهد مؤثر، زوج إلى جانب زوجته يتقدمان حفل تكريم "لزهرة العائلة العطرة". ينخرط الأصدقاء في الغناء ويلوحون أذرعتهم على أنغام الموسيقى التقليدية لكوريا الشمالية "ينبغي عليك أن تحب".

المغني في فيديو الكاريوكي ليس رجلاً عادياً – إنهم متهم بتدبير غاز الأعصاب الذي قتل الأخ الأكبر والمنافس الرئيسي لزعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون.

كان اغتيال كيم يونغ نام، والذي التقطته الكاميرات في مطار كوالالمبور المزدحم بالمسافرين، عملية قتل جريئة ومثيرة أطلقت شرارة أزمة دبلوماسية كبيرة.

تظهر المقاطع التي حصلت عليها وحدة تحقيقات الجزيرة أحد المتهمين، ري يونغ تشول، البالغ من العمر ثمانية وأربعين عاماً، مستمتعاً بحريته في مطعم كاريوكي في الصين في الشهور التي تلت عملية الاغتيال.

وكان ري قد ألقي القبض عليه وسجن بعيد مقتل كيم يونغ نام ولكنه أطلق سراحه فيما بعد في تبادل للسجناء بين ماليزيا وكوريا الشمالية.

حينذاك، قالت حكومة ماليزيا إنها لم يكن يتوفر لديها ما يكفي من الأدلة لتوجيه الاتهام له، ولكن مصادر الشرطة والمخابرات لديها شكوك بأن ري هو الذي أعد غاز الأعصاب "في إكس" الذي قتل نام.

Ri Jong Chol, a karaoke chemist [Al Jazeera]
ري يونغ تشول كيميائي الكاريوكي [الجزيرة]

إلا أن ري أفلت من العدالة، بينما مازالت امرأتان شابتان، قالتا إنهما غرر بهما حتى يلطخا وجه نام بالمادة السامة، وجهت لهما تهمة القتل العمد وقضتا سنوات في السجن حيث تواجهان عقوبة الإعدام.

ثم ما لبثت ماليزيا أن أسقطت تهم القتل العمد ضد المرأتين وسمح لإحداهما بالعودة إلى وطنها في أندونيسيا في شهر مارس بينما من المقرر أن يتم إطلاق سراح المرأة الثانية، وهي من فيتنام، في الثالث من مايو.

أما الأشخاص الرئيسيون الذين دبروا ونفذوا واحدة من أشهر عمليات القتل في الزمن المعاصر فقد أفلتوا من العدالة.

’لا مكان للاختباء‘

أول خطأ كبير ارتكبه نام كان السفر في إجازة عائلية إلى ديزني لاند اليابانية في طوكيو. سافر مستخدماً جواز سفر مزور للدومينيكان منتحلاً اسماً صينياً. لاحظت ذلك السلطات اليابانية فأبعدته.

كلفته تلك الرحلة في عام 2001 زعامة كوريا الشمالية. لم يحتمل والده الحرج الدولي الذي سببه ذلك له، وجراء ذلك تحول نام من ولي للعهد في يايونغ يانغ إلى متسكع يسعى وراء اللهو والملذات.

بعد تسعة أعوام، وبينما كان يعيش في ماكاو، علم أن أخاه الأصغر غير الشقيق بات الثاني في الترتيب على السلطة. ما لبث كيم يونغ أون أن تولى الحكم في مطلع عام 2012 ومباشرة أصدر أمراً باغتيال أخيه الأكبر، كما ورد في تقرير لصحيفة نيويورك تايمز نقلاً عن مشرعين في كوريا الجنوبية أحيطوا علماً بالأمر من قبل وكالة المخابرات في بلدهم.

ويقال إن نام نجا من أول محاولة لاغتياله جرت ذلك العام.

خشية على حياته وحياة أفراد عائلته، كتب نام خطاباً وجهه إلى أخيه الأصغر جاء فيه حسبما نقل عنه: "أرجوك اسحب الأمر بمعاقبتي أنا وعائلتي. فلا يوجد لدينا مكان للاختباء فيه، ولا يوجد طريقة للهرب سوى اللجوء إلى الانتحار."

وفي فبراير / شباط من عام 2017 ذهب نام تارة أخرى في إجازة. كانت الرحلة إلى لنغكاوي في ماليزيا خطأه الثاني، وهو الخطأ الذي ثبت أنه قاتل بالفعل. يقال إنه أثناء وجوده في تلك الجزيرة السياحية الشهيرة التقى بجاسوس أمريكي وسلمه كمية كبيرة من البيانات الإلكترونية.

رجل يعتقد بأنه كيم يونغ نام مرافقاً بالشرطة وهو يستقل طائرة أثناء إبعاده من اليابان في مطار ناريتا الدولي بمدينة طوكيو [صورة أرشيفية: كايودو / عبر رويترز]

في طريق عودته إلى وطنه، في مطار كوالالمبور الرئيسي، كان نام متوجهاً نحو مكاتب الإدخال حتى يستقل طائرة إلى ماكاو عندما هاجمته امرأتان شابتان.

قامت الأولى بدعك وجهه بيدها بمادة كيميائية قبل أن تتبعها الثانية بدعكه بمادة أخرى مستخدمة فوطة. يقول الخبراء الآن إن المادتين حينما امتزجتا نتج عن تفاعلهما تكون غاز الأعصاب "في إكس" القاتل. خلال ساعتين فارق نام الحياة.

الفتاتان المتهمتان باغتياله، دوان ثي هوونغ وسيتي عايشة، وكلاهما عارضتا أزياء طامحتان، غادرتا المطار وعادتا إلى العمل في حانات كوالالمبور، دون أن تغيرا ملابسهما أو تغسلا أيديهما.

يصر محامي الدفاع عن سيتي عايشة على أن موكلته لم تكن تعلم في الواقع ما الذي كانت تقوم به. ظنت الفتاة الأندونيسية التي تبلغ من العمر ستة وعشرين عاماً أنها كانت تؤدي دوراً في مقلب تلفزيوني وظلت تعتقد ذلك لأيام فيما بعد، كما قال المحامي للجزيرة.

وأضاف: "لو كانتا تعلمان أن غاز "في إكس" قاتل فلماذا لم تكونا ترتديان قفازات واقية. لو علمت ذلك لكانت تخلصت من القميص الذي كانت ترتديه أو لقامت بغسله، ولكانت هربت إلى إندونيسيا. ولكنها لم تفعل شيئاً من ذلك."

وجهت لعايشة تهمة القتل العمد، وهي جريمة يعاقب عليها القانون بالموت، وقضت أكثر من عامين في السجن. ثم أطلق سراحها في الحادي عشر من مارس / آذار في تحرك مفاجئ بعد أن أسقطت النيابة الماليزية التهمة الموجهة إليها.

أما شريكتها دوان ثي هوونغ، البالغة من العمر ثلاثين عاماً، فاعترفت بالتهمة الأقل الموجهة إليها وهي التسبب بالأذى بعد أن أسقطت النيابة تهمة القتل العمد التي كانت موجهة لها أيضاً. حكم عليها بالسجن ثلاث سنين، ولكنها سيفرج عنها يوم الجمعة – حيث تم فيما بعد تقليص فترة السجن الذي حكم به عليها لأن القانون الماليزي يسمح بخصم ثلث مدة الحكم بالسجن.

دوان ثي هوونغ، إلى اليسار، وسيتي عايشة، إلى اليمين، اتهمتا بجريمة القتل العمد بحق كيم يونغ نام. [صورة أرشيفية: منشور الشرطة الماليزية]

بعد الحكم عليها قالت هوونغ إنها ترغب في مواصلة مهنة الغناء والتمثيل.

يقول محامو الدفاع إن المرأتين كانتا متعطشتين للنجومية. كانتا تعملان عارضتين وفي بعض العروض التلفزيونية بدوام جزئي رجاء أن يتم اكتشافهما.

فعلاً، وصلتا إلى النجومية، ولكن ليس كما كانتا ترجوان.

حياة من الغموض

قبل خمسة شهور من تسميم نام، تلقى ري 38 ألف دولار نقداً. تقول الشرطة إنها وجدت النقد إلى جانب خمسة أجهزة حاسوب وأربعة هواتف وقارورة كلورايد داخل شقته بأحد الأبراج الفاخرة في واحد من ضواحي كوالالمبور. كانت تلك من آثار "حياة من الغموض".

رسمياً كان ري يعمل في قسم الآي تي في مؤسسة صغيرة متخصصة في دواء الأعشاب تسمى تومبو إنتربرايز. في خضم ما أثارته عملية الاغتيال من اهتمام، قال مالك الشركة، واسمه تشونغ آه كاو، إنه منح ري وظيفة فقط كمعروف لأحد الأصدقاء.

وقال تشونغ إن ري لم يأت إلى المكتب إلا مرات قليلة رغم أنه رسمياً يتقاضى راتباً قدره 1200 دولاراً شهرياً.

وقال تشونغ، وهو مواطن ماليزي، في تصريح لوكالة رويترز: "كانت تلك رسميات فقط، مجرد أوراق، لم أدفع له فلساً واحداً. لا أدري كيف يعيش، ولا أدري كيف يحصل على المال."

اطلعت الجزيرة على وثائق تسلط مزيداً من الضوء على الطريقة التي كان ري يعمل من خلالها. يبدو أنه كان وكيل صادرات نشط يعمل لصالح مؤسسة بونغهوا للتجارة العامة في كوريا، والتي تتخذ لنفسها مقراً في بايونغ يانغ.

تظهر الفواتير ووثائق الشحن التي تعود إلى مطلع عام 2017 صادرات بالجملة لمئات الأطنان من "شعيرات الصابون"، وهي المكون الرئيسي المستخدم في إنتاج قطع الصابون، تم شراؤها من أوكتو بلاس ريسورسيز، وهي شركة صغيرة مدراؤها صينيون ومقرها ميناء كلانغ الماليزي.

يبدو أنه اشترى آلات ثقيلة، كما سعى لاقتناء برامج للتتبع عبر الأقمارالصناعية.

ري يونغ تشول، المواطن الكوري الشمالي المتهم بجريمة قتل كيم يونغ نام، يغادر قسم الشرطة في سيبانغ تمهيداً لإبعاده، في ماليزيا، الثالث من مارس / آذار 2017 [كايودو عبر رويترز]

في رسالة إلكترونية إلى الجزيرة، قالت أوكتو بلاس ريسورسيز إنهم ساعدوا ري على تصدير 600 طن من شعيرات الصابون التي تم توثيقها والإعلان عنها لدى سلطات الجمارك الماليزية. أعدت البضائع، والتي تقدر قيمتها بمئات الآلاف من الدولارات، للتصدير من ماليزيا إلى نامبو في كوريا الشمالية عبر داليان في الصين.

كما يوجد أيضاً إيصال بشيك أودع في حساب أوكتو بلاس ريسورسيز تبلغ قيمته تقريباً 43 ألف دولار مؤرخ في ديسمبر 2016، قبل أقل من شهرين من عملية القتل. تقول أوكتو بلاس إن الوثائق التي تحمل اسمها تم التلاعب بها من قبل طرف ثالث.

بالنسبة لري، والذي يعمل كيميائياً إضافة إلى خبير في الآي تي، كان البيت والعمل يختلطان. كانت ابنته، ري يو غيونغ، تدرس في مدرسة خاصة مقابل دفع رسوم في الجزء الغربي من كوالالمبور. إلا أن رسائل الإيميل والرسائل النصية تشير إلى أنها كانت أيضاً تساعد والدها في أعماله.

يظهر ري في الصور وهو يستمتع بحياة من الرفاه في ماليزيا، إذ يقضي وقته متجولاً في مجمعات التسوق الكبرى في كوالالمبور ومتردداً على مطاعمها. وله صورة مع ابنه الصغير، ري أون هايانغ داخل مطعم ياباني اسمه سايساكي، ويظهر في صورة أخرى مع زوجته داخل مطعم آخر.

إلا أن ما تكشفه المادة المحفوظة في هواتف ري هي الأمر الذي كان في الواقع يقوم به. فقد كان على اتصال وثيق مع سفير كوريا الشمالية ومع غيره من الدبلوماسيين.  

يقول المحققون من الولايات المتحدة ومن الأمم المتحدة إنه كان عميلاً للحكومة يساعد كوريا الشمالية في الاحتيال على العقوبات من خلال توفير احتياجاتها، وجني المال، والقيام بذلك من خلال اختلاق غطاء معين.

فرصة ذهبية مضيعة

تقول الشرطة الماليزية إن خمسة رجال كانوا قد انتشروا في المطار للإشراف على عملية الاغتيال، أربعة منهم راقبوا الفتاتين وهما تقومان بدور المقلب ، بينما شوهد الخامس في مقطع صورته الكاميرا وهو يراقب بهدوء العيادة حيث كان نام يصارع الموت.

وجد المحققون أن سيارة اشتراها ري هي التي نقلت بعض أولئك العملاء من المطار فيما بعد.

عندما ألقي القبض عليه قريباً من بيته كان يقود سيارة أخرى تحمل لوحة أرقام دبلوماسية تابعة لكوريا الشمالية، والتي كان يستخدمها منذ عام 2015.

يشك ضباط الشرطة بأنه صنع غاز الأعصاب في البيت، إلا أنهم لم يفتشوا شقة ري إلا مرة واحدة، واستجوبوه مرة واحدة فقط وأخفقوا في فحص أمتعته بحثاً عن آثار مادة "في إكس".

طبقاً لغووي، محامي الدفاع عن عايشة، لم تكن الشرطة لا موضوعية ولا كفؤة. ويتهمها بتركيز كل طاقتها على إدانة المرأة الشابة بدلاً من القيام بأي عملية تحقيق ذات معنى للكشف عن الدور الذي قام به ري ورفاقه، فقد كانت الأوامر تأتيهم من فوق.

ويقول المحامي: "لم يكن ضابط التحقيق، في واقع الأمر، ضابط تحقيق، بل كان يتلقى التوجيهات من الضابط المكلف بالتحقيق الجنائي، وهو مسؤول ذو رتبة عليا لم يدع بتاتاً للشهادة."

لأغراض هذه المقالة، رفضت الشرطة الماليزية التعليق على الأمر.

بعد أسابيع من إلقائهم القبض على ري، أطلقوا سراحه وتم إبعاده إلى الصين، حيث كانت كوريا الشمالية قد احتجزت مواطنين ماليزيين في بايونغ يانغ، وتم بهدوء ترتيب عملية استبدالهم به.

هبطت طائرة ري في بيجينغ في الساعات الأولى من أول سبت في شهر مارس / آذار من عام 2017، وأخذ معه كل فرصة في فهم من الذي قام بالفعل بتخطيط وتنفيذ عملية الاغتيال.

يقول هو تشيو بينغ من الجامعة الوطنية في ماليزيا: "كانت هناك فرصة ذهبية لمحاسبته، ولكننا ضيعناها تماماً."